لا حديث هنا عن أسوان المدينة السياحية ولا تنميتها بل كلامنا عن فتنة تجتاح الأرض الجنوبية الطيبة. فمنذ أيام ألقى شاب “وافد” من السودان بنفسه من الدور السادس خوفا من بطش أهالي منطقة “الصداقة” بأسوان به.. وهي منطقة إسكان متوسط يسكنها مختلف الأطياف ممن ينتمون إلى المحافظة أو مغتربون عنها يستأجرون شققا. وبسبب انخفاض سعر السكن بها اجتذبت المنطقة “الوافدين”.
سلاح ومخدرات
يقول أحد سكان منطقة “الصداقة” -طلب عدم نشر اسمه- إن زيادة عدد الوافدين في المنطقة رفع إيجارات السكن والمحلات. صحيح أن ذلك أدى لانتعاشة اقتصادية لكنه أوجد مجموعات “النيقروز” -وهم مَن تجنّسوا بجنسية السودان لتسهيل عبورهم إلى حدود مصر- بكثافة عالية في المنطقة. مندهشا من توفير هؤلاء مبالغ ضخمة -7 آلاف شهريا- يدفعونها لإيجار محال تجارية إيجاراتها في الطبيعي 700 جنيه فقط. كذلك الحال في إيجارات السكن. مبديا دهشته من أن هؤلاء قادمون من دول تعيش أزمة اقتصادية ولا يمكن أن تتوافر لهم هذه الأموال إلا عن طريق تجارة غير مشروعة مثل السلاح أو المخدرات أو تنقيب عن ذهب -حسب قوله.
فيما أدان الهجوم على بقية المقيمين لمجرد خطأ فردي من أحدهم: يحدث أن تندس عناصر من البلطجية والسارقين من أسوان في مثل هذه الهجمات. وهذا يشعل فتيل فتنة.
وكانت شائعة تسربت بين الأهالي عن “مقتل” مواطن على يد أحد “الوافدين من السودان ودول أفريقية”. فراجت منشورات تحريضية على مدار الأسبوع الماضي عبر صفحات التواصل الاجتماعي تطالب بترحيلهم.
شرارة الفوضى
أنقذوا السودانيين في أسوانبداية القصة ترجع إلى يوم 29 مايو/أيار الماضي بعد مشاجرة بين شباب وافدين والذين يشار إليهم باسم “النيقروز” وبين مجموعة أخرى من شباب منطقة “الصداقة” بأسوان.
وانتهت المشاجرة بإصابة شاب أسواني تعالت بعدها استغاثات تطالب بضرورة تدخل الأمن للفصل بين الأطراف المتنازعة. وبالفعل انتشرت عربات دوريات الشرطة في المنطقة وعاد الهدوء النسبي. لكن استمرت منشورات التحريض على صفحات التواصل وامتدت نيرانها لتشمل مناطق أخرى تقطنها أعداد كبيرة من الوافدين مثل المحمودية والسيل -اللتين شهدتا أحداثا مماثلة من قبل.
وقال ساكن آخر بمنطقة الصداقة إنه توجد كثافة للوجود الأمني حاليا بالمنطقة لكنه فيما يبدو “استقرار ما قبل العاصفة”.
الجالية السودانية في مصر
قتيل في توكتوكالصلات بين مصر والسودان متوطدة منذ قديم الأزل. والجالية السودانية في مصر قديمة جدا في وجودها. ولكن تم تفعيل دورها في عام 1976 عن طريق النادي السوداني-المصري. الذي كان نواة أولى لهم وهو الموجود حاليًّا في أسوان وتشرف عليه وزارة الشباب.
كما يوجد في أسوان شارع معروف باسم “شارع السودانيين” منذ سنوات بعيدة. حيث ينتشر فيها الباعة من السودانيين لعرض منتجاتهم وصناعتهم المحلية. وتملأ محلات المنتجات السودانية والأبخرة والعطور السودانية الخاصة بالنساء المنطقة. فيما عملت النساء منهن في تزيين العرائس. ولكن مؤخرا ومع اندلاع أحداث الثورة السودانية في 2018 وتردي الأوضاع هناك تزايد عدد الوافدين من السودان -أو من تجنّسوا بالجنسية السودانية من دول أفريقية- إلى أسوان. حيث أول منطقة يستقر فيها السودانيون بعد مغادرتهم الحدود تجاه شمال مصر. باعتبارها البيئة الأقرب للتقاليد السودانية.
وبحسب تصريحات منظمة الهجرة الدولية في 2020 يبلغ عدد الوافدين السودانيين إلى مصر زهاء 3.8 مليون نسمة وتعد مصر وجهة طبيعية للسودانيين للهروب من الفقر. حيث يمكنهم السفر برا والحصول على مساعدة من أقربائهم.
تاريخ قديم وجذور المشكلة الحالية
وعن الروابط بين أسوان والسودان تاريخيا يشرح لنا عبد الناصر صابر -النقيب السابق للمرشدين السياحيين بأسوان- أنها روابط قديمة. ولأسوان تحديدا روابط أسرية كبيرة تربطها بالسودان -خاصة شمال السودان. فهناك قبائل كبيرة لها امتداد داخل مصر والسودان مثل العبابدة.
عائلات وأسر أسوانية تعيش في أسوان وأقاربهم يعيشون في السودان وهى روابط متينة تقوي العلاقة بين الدولتين -حسب “صابر”. ففي مدينة مثل دراو هناك علاقات كثيرة مع عائلات سودانية كثيرة وإن كانت العلاقات قد بدأت تجارية عن طريق قدوم التجار لاستيراد الجمال من السودان. فيما يتم تصدير الأجهزة الكهربائية والخضراوات والفواكه. ناهيك بالحركة التجارية الضخمة عن طريق الشاحنات العملاقة التي تأتي من شمال وجنوب مصر إلى السودان محملة بالبضائع. خاصة الأسمنت والسيراميك.
ويروي “صابر” أنه قد ظهرت في السنوات الأخيرة حركة نزوح ممن يطلق عليهم في السودان “النيقروز” وهم من جمهوريات أفريقيا الوسطى وتشاد ويحملون جوازات سفر سودانية أو دخلوا البلاد بطرق غير مشروعة عن طريق التسلل من الدروب الجبلية. مضيفا أن لهؤلاء ثقافة مختلفة تماما عن ثقافة السوان التي نعرفها. فهم يميلون إلى العنف ودائما مسلحين بأسلحة بيضاء يشهرونها لأتفه سبب. فضلا عن بعض العادات كشرب الخمور وظهور بؤر بينهم للدعارة. ما يعد أمرا غريبا على المدينة الهادئة أسوان. ومن هنا بدأت المشكلات.
خناقات شوارع
بدأ التوتر منذ أكثر من عام نتيجة انتشار حوادث سرقات فردية من قبل أفراد من الوافدين. سواء من السودانيين -أو من تجنسوا بجنسيتهم- وهو تحت حالة سكر. واستهدفت هذه السرقات النساء بنسبة أكبر. ما ألقى في نفوس أهالي أسوان الغضب واعتبروا الأمر “إنكارًا” وجحودا لاستضافتهم وحسن استقبالهم للوافدين. ما أدى إلى الاحتقان ووقوع مشاحنات بين أهالي أسوان في منطقة السيل وبعض الوافدين في إبريل/نيسان الماضي وتم طردهم من السوق نتيجة خلافات وقعت بين شابين سودانيين تعدّيا على الجميع بإطلاق سباب وألفاظ خارجة في حضور سيدات وفتيات وأطفال في نهار رمضان. ما دفع أصحاب المحلات المجاورة إلى نهرهم وطلبوا منهم التوقف عن هذا السلوك. فتصاعد الخلاف وجاء الشابان بآخرين للتصدي للتجار الأسوانيين. ونتيجة لذلك تم طرد سودانيين آخرين من السوق لم يكن لهم علاقة بالمشاجرة لمجرد حملهم الهوية ذاتها.
دعوات طرد على الفضاء الإلكتروني
بعد حادثة السيل تلك كانت هناك دعوات متكررة من وقت لآخر لطرد كل السودانيين من أسوان. واشتعلت تلك الدعوات أكثر بعد أحداث “الصداقة” رغم عدم صدور أي مخالفات من سكان المنطقة.
اختلط الحابل بالنابل وسط عدم بروز الأمن كطرف لتهدئة الأوضاع المشتعلة داخل الصدور وحسابات مواقع التواصل. فتعرضت فتيات وأطفال وطلبة وسائحين وطالبي علاج سودانيين لمضايقات وهم لا يعرفون لماذا يحدث معهم ذلك. رغم الرصيد الأخوي الكبير بين الشعبين السوداني والمصري باعتبارهما بلدا واحدا وشعبا واحدا لوادي النيل.
وقد اجتمعت بعض الشخصيات البارزة في الشارع اﻷسواني وأصدرت بيانا يرفضون فيه أفعال الوافدين اﻷفارقة وكذلك ردود الفعل الغاضبة من بعض شباب أسوان. ذاكرين أن اﻷمن هو مسئولية رجال اﻷمن ولا أحد سواهم. مطالبين محافظ أسوان بإصدار بيان رسمي عما يحدث في أسوان بين المواطنين والوافدين وما اﻻجراءات التي تم اتخاذها في هذا الشأن.
صدى العراك على أرض السودان
صدى الصراع في السودانفي مقابل ما يحدث في أسوان من خلافات يتم تغذيتها بالفوضى نجد في السودان الشقيق أن أحداث أسوان أدت إلى وقوع اشتباكات بين أهالي السودانيين الوافدين وطلبة مصريين يدرسون بالسودان. ومنها وقوع اشتباك قرب جامعة أفريقيا بالخرطوم بين 3 شباب سودانيين وبعض الطلبة المصريين.
كذلك بدأت تظهر منشورات تحريضية ضد المصريين في السودان على صفحات التواصل الاجتماعي. إذ يتم اتهام المصريين بالقيام بـ”ضرب وقتل ممنهج ومتعمد”. ما ينذر برفع مستوى التوترات على الساحتين.
وهو ما جعل القنصل العام السوداني بأسوان المستشار أحمد خليفة يسارع بالتصريح لصحف سودانية -منها صحيفة “تسامح نيوز السودانية”– نافيا ما يتردد على وسائل التواصل اﻻجتماعي من اضطهاد للسودانيين. وبعث رسائل اطمئنان للسودانيين المقيمين بأسوان. مؤكدا عدم حقيقة ما ينشر من صور تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي عن مقتل سودانيين.
وأوضح القنصل أن هناك ممارسات سلبية تضر بمجتمع أسوان يقوم بها سودانيون موجودون بأسوان وهم من يسمون “9 طويلة”. إذ يهددون أمن مواطني أسوان. وهذه المشكلات ﻻ يمكن حلها إلا عبر الدولة السودانية بمراجعة تأشيرة الخروج للفئة العمرية. مؤكدا أن الوضع حاليا مستقر وهادئ.
سكان أسوان.. هجرات داخلية وبطالة
بالنظر إلى طبيعة سكان أسوان نجد أنهم تشكلوا نتيجة هجرات داخلية في ظل إقامة مشروعات قومية على أرضها. فأعيد تشكيل عادات أهالي البلد وتقاليدها. بالإضافة إلى التوازنات القبلية واستبعاد السكان المحليين من المشاركة في التخطيط وإدارة مثل هذه المشروعات. نظرا لغياب المنهجية في أهمية المشاركة المجتمعية في مشاريع المحافظة ومواردها.
ووفقا للإحصائيات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء فإن عدد السكان بمحافظة أسوان لا يتعدى 1.5 مليون نسمة. يمثل الشريحة الأكبر منها في فئة العمل ما يزيد على 60% قليلاً. وبحسب الإحصائية يقدر حجم البطالة بنحو 5%[1]. وهي نسبة لا تتضمن البطالة الموسمية. أو من أصبح له ملف تأميني بغض النظر عن تعطله. لذا فيمكن أن تكون نسب معدل البطالة في أسوان أعلى من ذلك بكثير.
كانت محافظة أسوان مدينة سياحية من الطراز الفريد لتنوع أوجه السياحة بها. فهي بالإضافة إلى معابدها الشهيرة والمتعددة تتميز بالمناطق النوبية المتفردة في ثقافتها وبنائها. ما جعلها قبلة السائحين. لكن صناعة السياحة بها تضررت بفعل أوضاع اقتصادية عامة متدهورة. فضلا عن أحداث إرهابية عطلت النمو السياحي. فزادت البطالة. إذ كان اعتماد الغالبية العظمى من أهالي أسوان وتجارتهم قائما على توافد السائحين.
كنز سياحي في أسوانكما ابتعدت أسوان -ومدن الصعيد عموما- لسنوات طويلة عن خطط التنمية بالدولة المصرية. مع استمرار التغيرات الديموجرافية للسكان بها نتيجة نزوح المواطنين من محافظات أخرى سعيا وراء الرزق. ما أدى إلى تغيرات كبيرة في نسيجها الاجتماعي وتغذية فتيل العنصرية في نفوس المقيمين بالمحافظة التي دائما ما تميزت بالهدوء والطيبة والاستيعاب.
“ولكن الأمن مستتب!”
كل ما سبق يجري على أرض أسوان. فضلا عن صراعات القبائل والقرى التي تم الاعتداء فيها على النساء في منازلهن وأوقعت ضحايا. بالإضافة إلى انتشار عمليات النصب عبر حوادث “المستريحين“. والتي راح ضحيتها آلاف من أهل أسوان في ظل تأخر الجهد الأمني لمجاراة أحداث هذه البيئة المضطربة والمستعدة بسرعة للتفاعل في أي أحداث غاضبة.
ورغم إعلان الرئيس السيسي اختيار مدينة أسوان كعاصمة للشباب الأفريقي خلال منتدى أسوان الدولي في 2019. لم يقابل ذلك خطط استراتيجية واضحة لتطوير المحافظة وتحسين البنية التحتية بها.
ستنعم أسوان قريبا ببعض الهدوء النسبي. حيث تنعقد بها الدورة الثالثة لمنتدى أسوان الدولي في الفترة “21-22” يونيو الجاري. وذلك تحت شعار “أفريقيا في عصر المخاطر المتتالية والتأثر بالمناخ: مسارات من أجل قارة سلمية ومرنة ومستدامة”. ولكن يبقى الخلل الواضح متمثلا بعدم وجود متابعة أمنية جيدة لما يدور من نزاعات قد تتحول إلى كارثة وتشتعل في أي لحظة.
لا نريد ختاما الكتابة عن أسوان بأن “جميع القيم مهدرة ولكن الأمن مستتب”. تلك الجملة التي سخر بأسى منها الأديب نجيب محفوظ في ختام قصته “الجريمة”. فلا نريدها شعارا لأسوان المدينة الطيبة التي بدأت تعاني خللا يحتاج إلى سرعة تدخل على أعلى مستوى في الدولة المصرية قبل أن تخرج أمورها عن السيطرة.
[1] الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء “مصر في أرقم العمل من 2018-2021” : https://www.capmas.gov.eg/Pages/Publications.aspx?page_id=5104&Year=23592