50
خلال السنوات القليلة الماضية، شهدت مصر قفزة نوعية في صياغة الإطار التشريعي والتنظيمي الخاص بقطاع التعهيد وخدمات تكنولوجيا المعلومات والعمليات التجارية، في تطور يُعد ترجمة مباشرة للاستراتيجية الحكومية التي تهدف إلى ترسيخ مكانة مصر كمركز عالمي رئيسي لتصدير الخدمات العابرة للحددود، إذ إن المشهد القانوني الحالي لقطاع التعهيد في مصر لم يعد يقتصر على مجرد تسهيل إجراءات الترخيص، بل أصبح منظومة متكاملة تقوم على استراتيجية مزدوجة تتضمن تقديم حوافز ضريبية سخية لجذب رؤوس الأموال كثيفة العمالة، وفي الوقت نفسه، فرض متطلبات امتثال صارمة وتغليظ للعقوبات لضمان الأمن القومي السيبراني وحماية البيانات الشخصية على المستوى الدولي.
عدد من خبراء القطاع القانوني أكدوا، في هذا الصدد، أن مصر قطعت شوطًا مهمًا في بناء منظومة تشريعات داعمة لصناعة التصدير الرقمي بكافة قطاعاتها، والتي أصبحت أحد أبرز روافد الاقتصاد الرقمي ومحركًا رئيسيًا لجذب الشركات العالمية، موضحين أن التحدي الفعلي لا يكمن في نقص التشريعات، بل في تعدد الجهات وتشتت الإجراءات، ما يستدعي إطلاق منصة موحدة للخدمات والتراخيص لتيسير الدخول إلى السوق المصرية، مع ضرورة مواكبة التغييرات القانونية العالمية المتعلقة بالأنشطة الرقمية الجديدة.
هؤلاء الخبراء اتفقوا على أن المرحلة المقبلة تتطلب تسريع وتبسيط الإجراءات الرقمية، وتحديث قواعد التعامل مع البيانات، وتحسين سهولة تأسيس الشركات، إلى جانب تطوير المهارات الرقمية للشباب لاستيعاب الطلب العالمي على خدمات أعلى قيمة تشمل التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي.. ويرى المخصتون أن اكتمال هذه المنظومة- من توحيد التشريعات، وتبسيط الإجراءات، وتعزيز المهارات- سيعزز قدرة مصر على التحول إلى مركز إقليمي رائد لخدمات التعهيد والتصدير الرقمي خلال السنوات المقبلة.
قال هاني زهران، مؤسس مكتب زهران للاستشارات القانونية، إن صناعة التعهيد في مصر لم تعد نشاطًا خدميًا فحسب، بل تحولت إلى أحد أهم روافد الاقتصاد الرقمي وقطاع قادر على جذب استثمارات ضخمة وإيجاد فرص عمل نوعية، مستندًا إلى بنية تشريعية ورقمية وضعتها الدولة على مدار أكثر من عشرين عامًا.
وأشار زهران إلى أن الإطار القانوني الذي تستند إليه صناعة التعهيد في مصر بداية من قانون حماية البيانات الشخصية رقم 151 لسنة 2020، مرورًا بقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ووصولًا إلى قانون تنظيم التكنولوجيا المالية (الفينتك) رقم 5 لسنة 2022، الذي تضمَّن في مادته الخامسة أحكامًا صريحة لضبط قواعد تبادل البيانات، وضمان سرّيتها، وحدود استخدامها.
وأكد أن هذه المادة تمثل جزءًا أساسيًا في تهيئة بيئة آمنة لأي نشاط قائم على التكنولوجيا أو المعلومات، مثل خدمات التعهيد وخدمات العمليات التجارية العابرة للحدود.
وأضاف أن قانون الاستثمار رقم 72 لسنة 2017 يوفر العديد من الضمانات والحوافز لمستثمري قطاع التعهيد، مشيرًا إلى أن هذا القطاع يستفيد من المزايا الخاصة بالمناطق التكنولوجية التي أنشأتها الدولة، وهو ما يعزز القدرة على جذب الشركات العالمية والإقليمية.
كما لفت إلى أهمية قانون التوقيع الإلكتروني رقم 15 لسنة 2004، والذي يعد أحد الأعمدة الأساسية في بناء بيئة رقمية قادرة على التعامل مع شركات التعهيد الدولية، خاصة أن القانون يتوافق بشكل كبير مع المعايير الدولية في الاعتراف بالتوقيعات الإلكترونية، واعتماد الهوية الرقمية، وتوثيق المعاملات عن بُعد.
وقال زهران إن البنية الرقمية التي وضعتها مصر بدأت منذ أوائل الألفينات، مع إطلاق استراتيجية الحكومة الإلكترونية وتطوير شبكات الاتصالات، ثم تأسيس هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات “إيتيدا”، والتي لعبت دورًا محوريًا في جذب كبرى شركات التعهيد العالمية إلى السوق المصرية.
وذكر أن مصر كانت حريصة على تحديث قوانين الاتصالات والجرائم الإلكترونية، وبناء بنية تحتية قوية للإنترنت ومراكز البيانات، بما يسمح بتقديم خدمات رقمية متكاملة تتوافق مع متطلبات الأسواق الدولية.
وأشار إلى أن التحدي الأكبر اليوم ليس في التشريعات لأنها مكملة لبعضها وتشكل منظومة مترابطة بل في تعدد الجهات التي يتعامل معها المستثمر عند بدء النشاط، وقال إن “المستثمر الأجنبي والمحلي لا يحتاج إلى قوانين جديدة بقدر حاجته إلى توحيد الخدمات المقدمة له”، موضحًا أن توحيد الجهات وإطلاق منصة موحدة للخدمات والتراخيص من شأنه أن يقلل الوقت والتكلفة ويعزز من ثقة المستثمرين في السوق المصرية.
وأكد زهران أن تبسيط الإجراءات، وتسريع الموافقات، وتوفير الحوافز الموجهة لهذا القطاع، تمثل جميعها أدوات أساسية لتعزيز قدرة مصر على المنافسة إقليميًا، خاصة مع دخول دول مثل السعودية والمغرب وقبرص والفلبين في سباق تقديم خدمات التعهيد عالميًا.
وأشار إلى أن المستثمر يبحث عن بيئة خالية من البيروقراطية، وشفافة، ومتسقة تشريعيًا، وهو ما تعمل عليه الدولة بالفعل من خلال التحول إلى الخدمات الإلكترونية وتعميم نظام الشباك الواحد.
وشدد على أن القوانين المصرية وضعت إطارًا متوافقًا مع المعايير الدولية لضمان سرية البيانات، ومنع إساءة استخدامها، وتسهيل نقلها عبر الحدود، وهي عناصر تجعل مصر وجهة موثوقة للشركات العالمية العاملة في التعهيد.
كما لفت إلى أن المادة الخامسة من قانون الفينتك تمثل نموذجًا واضحًا على قدرة التشريعات المصرية على مواكبة التطور التكنولوجي وضبط العلاقة بين مقدم الخدمة والمستهلك، بما يعزز الثقة ويضمن استدامة النشاط.
وأكد زهران على أن مصر تمتلك الأساس التشريعي والرقمي الذي يؤهلها لتكون مركزًا إقليميًا لخدمات التعهيد، ولكن المرحلة المقبلة تتطلب المزيد من الانسيابية في الإجراءات، وتوحيد الخدمات للمستثمرين، وتقديم رؤية استثمارية واضحة، حتى يسهم القطاع في دعم الاقتصاد الوطني، وزيادة الصادرات الرقمية، وفتح آفاق جديدة لنمو الاقتصاد.
مواكبة التغييرات
واتفق معه حسام جرمون، الشريك المؤسس لأدسيرو للاستشارات القانونية، مؤكدًا أن نشاط التعهيد أصبح من أهم الأنشطة الاقتصادية التي تستند إليها مصر في بناء اقتصاد رقمي تنافسي، مشيرًا إلى أن القطاع لا يتوقف فقط عند تصدير الخدمات التكنولوجية أو حلول الدعم الفني، بل يمتد ليصبح عنصرًا أساسيًا في جذب الشركات العالمية الكبرى وتعزيز الثقة في السوق المصرية.
وأوضح جرمون أن صناعة التعهيد تفتح الباب أمام تعاملات مباشرة مع شركات دولية ذات ثقل، ما يرفع من مستوى التنافسية ويعزز مكانة مصر على خريطة الخدمات الرقمية العابرة للحدود.
وأشار إلى أن دخول هذه الشركات لا يتوقف عند ضخ الاستثمارات، بل يعزز أيضًا تبادل الخبرات في مجال تكنولوجيا المعلومات، ويسهم في رفع كفاءة العاملين، ويزيد من قدرة الشركات المحلية على تبنّي أحدث النظم التقنية.
وأضاف أن توسع نشاط التعهيد يسهم أيضًا في تعزيز الأمن السيبراني داخل السوق المصرية، لأن الشركات العالمية التي تتعامل مع السوق تفرض معايير أعلى لحماية البيانات، ما يدفع الشركات المحلية لتطوير أنظمتها الإلكترونية وتطبيق معايير دولية تحمي البنية الرقمية المصرية.
وأشار جرمون إلى أن قطاع التعهيد يخفف الكثير من الأعباء على المستثمرين الأجانب الراغبين في دخول السوق المصرية، نظرًا لوجود منظومة تشريعية داعمة، ومناخ استثماري يتقدم بخطوات سريعة نحو الرقمنة وتبسيط الإجراءات.
وقال إن الدولة خلال السنوات الماضية عملت على إصدار مجموعة من القوانين المتطورة المتعلقة بالتجارة الإلكترونية والخدمات الرقمية، مثل قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وقانون حماية البيانات الشخصية، وتحديثات قانون الاستثمار، وهي خطوات إيجابية ومتناغمة مع التحول العالمي نحو الاقتصاد الرقمي.
وفيما يتعلق بالإطار التشريعي، أكد جرمون أن أهم ما تحتاج إليه الصناعة الآن هو توحيد القوانين المنظمة لنشاط التعهيد والتجارة الإلكترونية، موضحًا أن تعدد القوانين الحالية يؤدي إلى تشتيت المستثمرين، خاصة المستثمر الأجنبي الذي يبحث عن منظومة قانونية واضحة لا لبس فيها.
وقال إن غياب قانون موحد للتجارة الإلكترونية يعقّد بيئة العمل، رغم وجود أكثر من قانون يعالج أجزاء من المنظومة، ما يتطلب إصدار تشريع شامل يضم قواعد المعاملات الإلكترونية، وحماية المستهلك الرقمي، والمدفوعات الرقمية، والضرائب المرتبطة بالخدمات الإلكترونية.
وأشار إلى أن توحيد التشريعات سينعكس إيجابًا على نشاط التعهيد من محورين أساسيين الأول، أنه يشجع دخول شريحة أكبر من المستثمرين العالميين للسوق المصرية بفضل الوضوح القانوني والاستقرار التشريعي، والثاني أنه سيمنح المشُرع القانوني القدرة على صياغة قوانين مرنة ومناسبة لمختلف أنشطة الاقتصاد الرقمي، دون تداخل أو تعارض بين القواعد التنظيمية.
وأكد جرمون أهمية مواكبة التغييرات القانونية العالمية المتعلقة بالأنشطة الرقمية الجديدة، مشيرًا إلى ضرورة الإسراع في إصدار قوانين موحدة تنظم مجالات مثل الهوية الرقمية، وكذلك تعزيز الأطر القانونية التي أقرها قانون البنك المركزي فيما يتعلق بإجراءات اعرف عميلك KYC وخدمات التكنولوجيا المالية.
وأضاف أن القوانين في مصر “جيدة في مضمونها” لكنها تحتاج إلى تبسيط آليات التنفيذ والتطبيق، مؤكدًا أن التطبيق الصحيح أهم من وجود القانون نفسه، وقال إن المستثمرين والشركات بحاجة إلى إجراءات واضحة، غير معقدة، ومرنة في التعامل مع الجهات الحكومية، ما يرفع من تنافسية مصر في جذب الشركات العالمية العاملة في مجال الخدمات الرقمية.
كما شدد جرمون على ضرورة تبسيط تعاملات الأفراد في الارتباط بالشركات الخارجية، خاصة في ما يتعلق باستقبال التحويلات بالدولار مقابل الخدمات الرقمية، مشيرًا إلى أن هذه الإشكالية تمثل عائقًا أمام الكثير من الشركات الناشئة والعاملين المستقلين.
وأضاف أن مصر تتوافق بدرجة كبيرة مع المعايير الأوروبية والدولية في مجال حماية البيانات والتعاملات الإلكترونية، وهو ما يمنحها ميزة إضافية عند التعامل مع شركات أوروبية تلتزم بإطار الـ GDPR.
وذكر جرمون أن مستقبل صناعة التعهيد في مصر يتطلب تقديم حزمة محفزات استثمارية جديدة، تشمل حوافز ضريبية، ودعمًا أكبر للشركات الناشئة، وتسهيلًا أكبر للإجراءات الخاصة بالشركات التي تقدم خدمات رقمية للأسواق الخارجية، مؤكدا أن هذه الخطوات، إلى جانب تطوير الإطار التشريعي وتوحيد القوانين، ستجعل مصر واحدة من أهم مراكز التعهيد في الشرق الأوسط وأفريقيا خلال السنوات المقبلة.
«GLA» للاستشارات القانونية: لدى القاهرة فرصة ذهبية للانطلاق إلى مستوى أكثر تعقيدًا من خدمات التعهيد
فيما أكد مكتب جلال آند كيو – GLA للاستشارات القانونية أن قطاع التعهيد في مصر يواصل ترسيخ مكانته كأحد أهم القطاعات القادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية وخلق فرص عمل مباشرة، خاصة في ظل توسع شركات عالمية في خدمات تكنولوجيا المعلومات وخدمة العملاء والتحول الرقمي.
وقال أشرف هندي، شريك ورئيس قطاع البنوك والتمويل بمكتب GLA، إن قطاع التعهيد لم يعد نشاطًا خدميًا فقط، بل أصبح رافعة اقتصادية تعتمد عليها الدولة في دعم النمو ورفع قدرة السوق المصري على المنافسة. وأوضح أن السنوات الأخيرة شهدت اهتمامًا كبيرًا من الحكومة لتسهيل دخول الشركات العالمية، سواء عبر توفير بنية تحتية رقمية قوية أو من خلال إصدار قواعد وتشريعات مرنة تعزز من سهولة ممارسة الأعمال.
وأشار هندي إلى أن مصر أصبحت تمتلك مزيجًا مميزًا من العوامل التي عززت موقعها، بينها تكلفة تشغيل تنافسية، وحجم كبير من الكفاءات الشابة المتقنة للغات المختلفة، إلى جانب توسع شركات التكنولوجيا في مراكز الخدمات المشتركة (Shared Services).
وأضاف أن نجاح صناعة التعهيد يعتمد بشكل رئيسي على الاستقرار التشريعي، وهو ما تعمل عليه الدولة من خلال قوانين مثل قانون الاستثمار وقانون العمل وقوانين حماية البيانات، والتي ساعدت على خلق بيئة أعمال واضحة للشركات الأجنبية.
كما شدد على أن تطوير الصناعة يحتاج إلى مواصلة التركيز على التدريب المتخصص في المهارات الرقمية، مشيرًا إلى أن الشركات العالمية أصبحت تبحث اليوم عن خدمات أعلى قيمة تشمل التحول الرقمي والتحليلات وخدمات الذكاء الاصطناعي، وليس فقط خدمة العملاء التقليدية.
واستطرد قائلاً إن مصر تمتلك فرصة ذهبية للانتقال إلى مستوى أكثر تعقيدًا من خدمات التعهيد، ما يعزز مساهمة القطاع في الناتج المحلي، ويرفع حجم الاستثمارات الأجنبية الوافدة للبلاد.
ومن جانبها، أكدت مريم طارق، محامية بقطاع البنوك والتمويل بمكتب GLA، أن الإطار القانوني المنظم لصناعة التعهيد تطور بشكل كبير خلال الفترة الماضية، وهو ما ساهم في تعزيز الثقة لدى المستثمرين الدوليين. وقالت إن قانون حماية البيانات الشخصية رقم 151 لسنة 2020 يعد خطوة جوهرية لضمان حماية سرية المعلومات وخلق بيئة آمنة متوافقة مع معايير GDPR العالمية، الأمر الذي أعطى الشركات الطامحة للعمل من مصر ثقة أكبر في سلامة العمليات.
وأضافت مريم أن قانون الاستثمار ولائحته التنفيذية يمنح الشركات العاملة في التعهيد حوافز كبيرة، خاصة للمناطق التكنولوجية، مما جعل مصر مركزًا جاذبًا للتوسع الإقليمي. وأوضحت أن قانون العمل الجديد وتحديث منظومته يضمن توازنًا بين حقوق العاملين ومتطلبات الشركات، وهو ما يُعد عنصرًا أساسيًا في صناعة قائمة على الموارد البشرية.
وأشارت إلى أن تطوير القطاع يحتاج كذلك إلى تحديثات مستمرة في القواعد المنظمة لاستخدام البيانات، إلى جانب تسهيل إجراءات تأسيس الشركات وتراخيص مزاولة الأنشطة الرقمية. ورأت أن التعاون المستمر بين الحكومة والقطاع الخاص في وضع السياسات التشغيلية يُعد ضرورة لضمان قدرة السوق المصري على جذب المزيد من الاستثمارات العالمية في السنوات المقبلة.واكدا مستشارو مكتب GLA بأن صناعة التعهيد في مصر تقف على أعتاب مرحلة توسع جديدة، في ظل تحسن التشريعات، وتزايد القدرة التنافسية، واهتمام الدولة بتطوير المهارات الرقمية للشباب، وهو ما يمهد الطريق لتحول مصر إلى مركز إقليمي لخدمات الأعمال وخدمات التكنولوجيا المتقدمة.
التطبيق العملي للقوانين
الشريف للاستشارات: التحدي يكمن في الانتقال من القواعد والقوانين إلى التطبيق العملي للاقتصاد الرقمي
عاطف الشريف، مؤسس مكتب الشريف للاستشارات القانونية، أكد أن مصر تمضي بخطى سريعة نحو بناء منظومة تشريعية قوية تدعم التطور المتسارع للاقتصاد الرقمي، موضحاً أن الدولة نجحت خلال السنوات الأخيرة في إغلاق معظم فجوات الفراغ التشريعي عبر إصدار حزمة واسعة من القوانين المنظمة للمعاملات الإلكترونية، والبيانات، والأمن السيبراني، والخدمات المالية الرقمية، ومكافحة الجرائم التكنولوجية، مشيرا إلى أن هذه المنظومة تشكّل “أساساً تشريعياً متينا” يمكن البناء عليه لمواكبة التحول الاقتصادي العالمي.

وأوضح الشريف أن الإطار التشريعي الحالي يتمتع بدرجة عالية من التماسك والنضج، لكنه لا يزال بحاجة إلى مزيد من الربط والتكامل، مضيفاً أن المرحلة المقبلة تتطلب الانتقال من وضع القواعد إلى التطبيق العملي المتكامل، خصوصاً في ظل الحاجة إلى قانون شامل للتجارة الإلكترونية يدمج بين الجوانب المالية والتكنولوجية ويحدد بشكل واضح العلاقة بين البائعين والمستهلكين عبر المنصات الرقمية، مع توفير آليات حديثة وسريعة لحل المنازعات الإلكترونية ورفع كفاءة ضبط الأسواق الافتراضية.
وفي ما يخص حماية البيانات، أكد الشريف أن القانون المصري يتوافق بدرجة كبيرة مع المعايير الأوروبية للخصوصية GDPR، وأن هذا التوافق يمنح الشركات المصرية قاعدة تشريعية قوية تعزز الثقة الدولية وتمهد لتوسيع أعمالها في الخارج، لكنه لفت إلى أن النفاذ الكامل للأسواق الأوروبية لا يزال مشروطاً بصدور “قرار الكفاية” من المفوضية الأوروبية، وهو إجراء قانوني وسياسي معقد لم يتم اعتماده بعد، ما يدفع الشركات للاعتماد على آليات أخرى لنقل البيانات مثل الأحكام التعاقدية النموذجية.
وحول أبرز التحديات التي تواجه الشركات العاملة في تصدير الخدمات الرقمية، أشار الشريف إلى أن الفجوة الكبرى تكمن في غياب سياسة موحدة ومرنة تتماشى مع سرعة تطور القطاع، إلى جانب عدم توفر آلية فعالة ومنخفضة التكلفة لتسوية المنازعات العابرة للحدود، لافتا إلى استمرار وجود غموض فيما يتعلق بفرض الضرائب على الخدمات الرقمية الدولية، وخطر الازدواج الضريبي، إضافة إلى صعوبات ربط بوابات الدفع المحلية بالأسواق الخارجية ووجود قيود على التحويلات المالية للشركات الناشئة.
كما أكد أن هناك خطوات تشريعية مهمة جارية، خاصة بعد صدور قانون تنمية التجارة الإلكترونية عام 2022، مشيراً إلى أن المرحلة المقبلة تتطلب إصدار لوائح تنفيذية تفصيلية لهذه القوانين، وإنشاء منصة وطنية موحدة للتجارة الإلكترونية تكون بمثابة الإطار المرجعي للمعاملات الرقمية، مشددا على ضرورة تعزيز التنسيق بين جهات الدولة المختلفة مثل البنك المركزي، وهيئة حماية البيانات، وهيئة الرقابة المالية ووزارة الاتصالات لضمان تكامل الأطر التشريعية والرقابية.
وتناول الشريف جهود الرقابة على الأمن السيبراني وحماية البيانات خلال عمليات التصدير الرقمي، موضحاً أن الرقابة تعتمد على نموذج مشترك بين هيئة حماية البيانات الشخصية التي تمتلك صلاحية التفتيش وفرض الغرامات، والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات الذي يضع معايير الأمن السيبراني، والبنك المركزي المصري الذي يطبق قواعد صارمة على مؤسسات الدفع الإلكتروني، مؤكدا أن التحدي الأكبر يكمن في الرقابة على الشركات التي تعمل بالكامل عبر الحدود، إذ تعتمد الجهات التنظيمية بدرجة كبيرة على التقارير الدورية والشكاوى أكثر من التفتيش المباشر.
وتحدث الشريف عن الدور المحوري لهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (إيتيدا)، مبيناً أن دورها يتركز على الدعم والتمكين وليس الرقابة، إذ توفر مشورة قانونية وفنية للشركات وتسهّل التواصل بينها وبين الأسواق الخارجية، إلى جانب التوعية بحقوقها وواجباته، أما المنازعات الجادة فتتم إحالتها إلى القضاء أو مراكز التحكيم المتخصصة، باعتبار أن طبيعة القطاع الرقمي تحتاج إلى أدوات فض منازعات أكثر احترافية وتخصصاً.
وأضاف أن الاتفاقيات الدولية التي وقعتها مصر سواء في إطار منطقة التجارة الحرة الأفريقية أو الشراكة مع الاتحاد الأوروبي تسهم في إيجاد بيئة دبلوماسية وتشريعية مهيأة لتصدير الخدمات الرقمية، لكنها لم تترجم بعد إلى تسهيلات عملية مباشرة، إذ لا يزال نقل البيانات والخدمات الرقمية يخضع بشكل رئيسي للتشريعات الوطنية داخل كل دولة، ما يتطلب تحديثاً مستمراً لهذه الاتفاقيات لتشمل المعاملات الرقمية بشكل صريح.
وذكر أن الإصلاحات المنتظرة لن تقتصر على إصدار قوانين جديدة، بل ستشمل توحيد وتكامل المنظومة التشريعية القائمة بما يسمح بتسريع وتيرة النمو الرقمي، مؤكدا أن مصر تحتاج خلال المرحلة المقبلة إلى تحديث التشريعات الضريبية الخاصة بالخدمات الرقمية، ووضع إطار قانوني للذكاء الاصطناعي والأصول الرقمية، إلى جانب تعزيز حماية المستهلك الأجنبي عبر آليات فعّالة للتحكيم الإلكتروني.
وأشار الشريف إلى أن نجاح الاقتصاد الرقمي المصري يعتمد على إيجاد بيئة داعمة للشركات تمكّنها من تصدير خدماتها بثقة وسهولة، مؤكداً أن التنسيق بين الجهات الرقابية والاستجابة السريعة لمتطلبات السوق العالمية سيكونان عنصرين حاسمين في تحقيق هذا الهدف.








