في إطار رؤية «مصر 2030»، التي تستهدف بناء اقتصاد تنافسي قائم على التحول الرقمي والحوكمة، تمضي الدولة المصرية بخطوات متسارعة نحو تطوير منظومة العمل الجمركي، باعتبارها إحدى أهم ركائز تحسين مناخ التجارة والاستثمار. وفي هذا السياق، يأتي التوسع في تطبيق منظومة التسجيل المسبق للشحنات (ACI) ليشكل محطة مهمة في رحلة تحديث الموانئ والمنافذ المصرية، حيث يمضي العمل حاليًا نحو التطبيق الكامل على الشحنات الجوية بعد نجاح التجربة البحرية خلال السنوات الماضية.
مسار تطور منظومة التسجيل المسبق للشحنات
أطلقت وزارة المالية ومصلحة الجمارك المصرية نظام التسجيل المسبق للشحنات لأول مرة على الواردات البحرية في عام 2021، وأصبح التطبيق إلزاميًا اعتبارًا من أكتوبر من العام ذاته. وقد شكل ذلك نقلة نوعية في دورة العمل الجمركي، إذ انتقل النظام من مراجعة المستندات عند وصول البضائع إلى مراجعتها قبل الشحن من بلد التصدير، عبر الحصول على رقم تعريفي موحد للشحنة (ACID) وإدراجه على جميع المستندات.
ونظرًا للنتائج الإيجابية التي حققها النظام البحري، اتجهت الحكومة إلى تطبيق المنظومة على الشحنات الجوية، والتي تمثل نسبة مؤثرة من التجارة المصرية، خاصة في السلع الحساسة أو السريعة التلف أو عالية القيمة. وبدأ التشغيل التجريبي عبر منصتي «نافذة» للمستوردين و «CargoX» للمصدرين الأجانب، على أن يستمر حتى نهاية ديسمبر 2025، ليصبح التطبيق إلزاميًا مطلع يناير 2026.
الإطار القانوني والتنظيمي
يحظى النظام بدعامة قانونية متكاملة في قانون الجمارك رقم 207 لسنة 2020، الذي نص في مادته (39) على إلزام المستوردين بتقديم بيانات الشحنات قبل وصولها، بما يسمح للجمارك بإتمام إجراءات نظام إدارة المخاطر مسبقًا. كما نصت اللائحة التنفيذية الصادرة بقرار وزير المالية رقم 430 لسنة 2021 على التفاصيل الإجرائية، بالإضافة إلى مجموعة من القرارات والمنشورات الوزارية التي تدعم التطبيق التدريجي للنظام عبر المنافذ المصرية المختلفة.
ولا ينفصل النظام عن التطورات العالمية الحديثة؛ إذ يتوافق مع معايير منظمة الجمارك العالمية WCO، ومع توصيات اتفاقية تيسير التجارة بمنظمة التجارة العالمية WTO-TFA، التي تشجع الدول على التحول إلى أنظمة الإفصاح المسبق لضمان شفافية أكبر للتجارة الدولية.
أهمية النظام في قطاع الشحن الجوي
يتسم قطاع الشحن الجوي بطبيعته السريعة؛ فغالبية الشحنات تعتمد على تسليم عاجل ومواعيد دقيقة، ما يجعل أي تأخير في الإفراج الجمركي مكلفًا للمستوردين ومؤثرًا على حركة السوق. وهنا يبرز الدور الحيوي لمنظومة ACI الجوية، والتي تحقق عدة أهداف رئيسية:
1. تقليص زمن الإفراج وتقليل التكاليف
من خلال حصول الجمارك على البيانات قبل وصول الطائرة، يتم إجراء الفحص المسبق وتحليل المخاطر، مما يسمح بالإفراج السريع وتحسن في تصنيف الشحنات. ويؤدي ذلك إلى تقليل زمن التخزين في مطارات الشحن وتقليل الغرامات والأرضيات.
2. تعزيز الشفافية ومكافحة التلاعب
إلزام الشركات بإدراج رقم ACID على جميع مستندات الشحنة يمنع إدخال بيانات غير صحيحة أو مستندات مزيفة، ويحدّ من التلاعب في الفواتير أو منشأ البضائع.
3. رفع مستوى الأمن القومي
تتيح المنظومة للجمارك تقييم الشحنات عالية المخاطر قبل وصولها، مما يسهم في حماية البلاد من دخول مواد محظورة أو خطرية.
4. حماية المستهلك
التدقيق المبكر يساعد في منع دخول بضائع مغشوشة أو ضارة بالصحة، خاصة المنتجات الطبية أو سلع الأطفال أو المنتجات الغذائية المتسارعة التلف.
5. تحويل المطارات من ساحات تخزين إلى بوابات عبور
من أبرز أهداف الحكومة تحويل مطارات الشحن إلى مراكز عبور سريعة، والاعتماد على نظم تداول إلكترونية، بما يعزز تنافسية مصر كمركز لوجيستي إقليمي.
آلية التسجيل وخطوات التنفيذ
تتم إجراءات التسجيل وفق منظومة إلكترونية مترابطة، تبدأ من المستورد وتنتهي بشركات الطيران، على النحو التالي:
1. تقديم طلب رقم ACID:
يقوم المستورد أو وكيله من المخلصين الجمركيين بتسجيل بيانات الشحنة على منصة «نافذة» قبل 4 ساعات على الأقل من مغادرة وسيلة النقل من بلد التصدير.
2. إدراج بيانات المصدر والبضائع:
تشمل البيانات: اسم المورّد، البنود الجمركية، الكميات، القيمة، وطبيعة السلعة.
3. إصدار الرقم التعريفي ACID:
تصدر المنصة الرقم، ويصل المستورد والمصدر الأجنبي إشعارًا إلكترونيًا به.
4. التزام المصدر وشركات الطيران:
تلتزم شركات الشحن الجوي وشركات الطيران بإثبات الرقم على مستندات الشحن والفاتورة والبوليصة.
5. رفع المنافيست الإلكتروني:
للرحلات القصيرة (أقل من 4 ساعات): يتم الرفع فور الإقلاع.
للرحلات الأطول: يتم الرفع خلال ساعتين من الإقلاع.
هذه الآلية تضمن وصول البيانات للجمارك قبل وصول البضائع، مما يمكّن المنظومة من إجراء مراجعة شاملة وسريعة.
ورش تدريبية لبناء القدرات
وتولي مصلحة الجمارك اهتمامًا كبيرًا بتأهيل المجتمع التجاري على النظام الجديد. ففي سبتمبر 2025، بدأت المصلحة بالتعاون مع شركة MTS المشغّل الوطني لمنصة «نافذة» في تنفيذ ورش تدريبية أسبوعية كل يوم اثنين وأربعاء، من السابعة حتى التاسعة مساءً. وتهدف تلك الورش إلى:
شرح آليات التسجيل خطوة بخطوة.
معالجة الأخطاء الشائعة في تسجيل البيانات.
تدريب شركات الشحن الجوي والمخلصين على التعامل المتكامل بين «نافذة» و«CargoX».
تعزيز جاهزية منظومة القطاع الخاص قبل التطبيق الإلزامي.
أثر التطبيق على بيئة الاستثمار والتجارة
يمثل التوسع في تطبيق ACI أحد أهم المشروعات الداعمة لبيئة الأعمال، إذ يحقق:
مناخًا تجاريًا أكثر ثقة عبر شفافية أكبر في تدفق البيانات.
تكاملًا رقميًا بين الجهات الحكومية (الصحة، الحجر الزراعي، الرقابة على الصادرات والواردات).
تحسنًا في التصنيف الدولي لمصر في مؤشرات التنافسية وتيسير التجارة.
تقليل زمن الإفراج مما يخفض التكلفة النهائية على المستهلكين.
زيادة القدرة التنافسية للموانئ والمطارات المصرية في المنطقة.
نقلة استراتيجية نحو جمرك حديث
يمثل بدء التشغيل التجريبي لمنظومة التسجيل المسبق للشحنات الجوية حلقة جديدة في سلسلة الإصلاحات الجمركية التي تتبناها الدولة، والتي تتضمن:
التوسع في مراكز الخدمات اللوجستية.
الرقمنة الكاملة لدورة العمل الجمركي.
اعتماد نظام إدارة المخاطر كوسيلة أساسية للتعامل مع الشحنات.
الربط الإلكتروني بين الجمارك وجميع الجهات الرقابية.
ومع دخول التطبيق الإلزامي مطلع يناير 2026، تتجه مصر نحو مرحلة أكثر تطورًا في إدارة المنافذ الجوية، بما يجعل قطاع الجمارك أكثر قدرة على مواكبة المعايير العالمية، ويعزز طموح الدولة في أن تصبح مركزًا محوريًا للتجارة الدولية وسلاسل الإمداد.
