أعلن الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، عن خطة شاملة لخفض الدين العام، متحدثًا عن خطوات حكومية جادة نحو تحويل الدين إلى استثمارات، وإجراءات ستُعلنها الحكومة قريبًا.
إعلان رئيس الوزراء لم يكن وليد اللحظة؛ فوفقًا لمصادر حكومية مطلعة، تم العمل على هذا الملف قبل عدة سنوات في صمت تام، ثم جاءت تعديلات تشريعية في مجالات المالية العامة مهّدت الطريق نحو إصلاحات وتطويرات حقيقية تُظهر الوجه الحقيقي للاقتصاد المصري، من خلال مبدأ وحدة الموازنة العامة.
وأكدت المصادر أن تحركات وزارة المالية في هذا المسار بدأها الدكتور محمد معيط، وزير المالية السابق والمدير التنفيذي للمجموعة العربية بصندوق النقد الدولي، حيث شكّل إصدار قانون المالية العامة الموحد رقم (6) لسنة 2022 نقطة الانطلاق الفعلية لمسار إصلاحي جديد، استهدف إعادة هيكلة إدارة المالية العامة في مصر، ووضع الأساس التشريعي والمؤسسي لخفض الدين العام، ووضع سقف سنوي متناقص له، وتحسين مؤشرات الاستدامة المالية على المدى المتوسط والطويل.
قانون موحد للمالية العامة يضع الأساس للإصلاح
ووفقًا للمصادر، جاء قانون المالية العامة الموحد باعتباره أول إطار تشريعي شامل للمالية العامة في تاريخ مصر، بعد دمج عدد من القوانين المتفرقة، من بينها قانون المحاسبة الحكومية، وقانون الموازنة العامة، وتشريعات مالية أخرى، في منظومة واحدة متكاملة.
وقد أسهم ذلك في تحديث أدوات إعداد وتنفيذ الموازنة عبر التوسع في التحول الرقمي، وتطبيق موازنة البرامج والأداء، واستخدام أوامر الدفع الإلكترونية، إلى جانب تطوير نظم المحاسبة الحكومية وتفعيل نظام إدارة معلومات المالية العامة الإلكتروني (GFMIS)، بما عزز الانضباط المالي والرقابة على الإنفاق العام.
وهيّأ هذا الإطار الجديد الأرضية اللازمة لإدارة أكثر كفاءة للموارد العامة، باعتبارها شرطًا أساسيًا لأي مسار جاد لخفض الدين العام.
أزمة الدين.. أرقام لا تعكس الواقع الكامل
قبل هذه الإصلاحات، كانت مؤشرات الدين العام تُحسب في ضوء الموازنة العامة للدولة (الحكومة المركزية فقط)، التي تشمل الوزارات والهيئات الخدمية ووحدات الإدارة المحلية، دون إدراج الهيئات الاقتصادية.
وأسفر ذلك عن إدراج أقل من نحو 50% فقط من موارد الدولة ضمن الموازنة، ما أدى إلى تشوّه في قراءة المؤشرات المالية للدولة المصرية، ومنه ظهور أعباء الفوائد كنِسَب مرتفعة من الإيرادات، تراوحت في بعض السنوات بين 65% و75%، وكذلك نسبة الحصيلة الضريبية كنسبة من الإيرادات.
هذه القراءة الجزئية كانت تضع ضغوطًا كبيرة على تقييم الوضع المالي للمالية العامة للدولة، رغم أن جزءًا معتبرًا من موارد الدولة وأنشطتها الاقتصادية يقع خارج إطار الموازنة التقليدية، ضمن نشاط الهيئات الاقتصادية للدولة.
التحول المفصلي: موازنة الحكومة العامة في 2024
جاءت المرحلة الأهم في رحلة خفض الدين العام مع تعديل قانون المالية العامة الموحد بموجب القانون رقم (18) لسنة 2024، الذي أقر التحول من موازنة الحكومة المركزية إلى موازنة الحكومة العامة للدولة، والتي تشمل الهيئات الاقتصادية، مع وضع سقف للدين العام لتخفيضه عامًا بعد عام.
وبموجب هذا التحول، تم دمج إيرادات ومصروفات الهيئات الاقتصادية مع الموازنة العامة في إطار واحد شامل، بما يعكس الحجم الحقيقي لموارد الدولة والتزاماتها المالية.
وأدى ذلك إلى تضاعف حجم الإيرادات المدرجة بموازنة الحكومة العامة مقارنة بالصيغة السابقة، وانعكس إيجابًا على مؤشرات رئيسية، مثل نسبة الإيرادات إلى الناتج المحلي الإجمالي.
تصحيح مؤشرات الفوائد والدين
مع شمولية الموازنة الجديدة، أصبحت مؤشرات أعباء الفوائد أكثر واقعية، حيث تراجعت نسبة الفوائد إلى الإيرادات إلى حدود 33%، ونحو 25% من إجمالي المصروفات، مقارنة بمستويات مرتفعة سابقًا عند الاحتساب على الموازنة العامة فقط.
كما أتاح هذا التحول إظهار المستوى الحقيقي للدين العام من خلال إدراج أوضاع الهيئات الاقتصادية ضمن الحسابات الكلية، وهو ما يمثل تصحيحًا جوهريًا لصورة المالية العامة أمام صُنّاع القرار والمؤسسات الدولية.
سقف للدين العام ودعم الاستدامة المالية
ضمن أدوات ضبط المسار، نصّ التعديل التشريعي على وضع سقف للدين العام لا يجوز تجاوزه، في خطوة تستهدف كبح نمو الدين، وتعزيز الانضباط المالي، وربط الاقتراض بالقدرة الفعلية للاقتصاد على السداد.
ويُعد هذا الإجراء أحد المحاور الرئيسية في استراتيجية خفض الدين، بالتوازي مع تحسين كفاءة الإنفاق، وتعظيم الموارد، وتوسيع القاعدة الضريبية دون تحميل المستثمرين أعباءً جديدة.
إشادة دولية وتحول في النظرة للاقتصاد
لقي التحول إلى موازنة الحكومة العامة، وشمولها لإيرادات الدولة كافة، إشادة واضحة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، باعتباره خطوة محورية نحو شمولية الموازنة وشفافية إدارة المالية العامة، وهو مطلب طالما نادت به المؤسسات الدولية لتحسين جودة السياسات المالية وتقييم المخاطر.
وأكدت تقارير ودراسات رسمية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن اعتماد موازنة الحكومة العامة الشاملة لكافة أنشطة الدولة الاقتصادية يعزز مصداقية المؤشرات المالية، ويدعم جهود خفض الدين وتحقيق الاستدامة.
ووفقًا للمصادر، فإن إعلان الحكومة اليوم المضي قدمًا نحو استهداف الدين العام، والدخول في محادثات جادة من منطلق مؤشرات حقيقية، ما كان ليتحقق دون إصلاح تشريعي ورؤية واضحة صاغتها الإرادة المصرية نحو مستقبل أفضل للأجيال القادمة.








