قال الدكتور حسين العسيلي، الخبير الاقتصادي، إن الاقتصاد المصري يمر حاليًا بلحظة بالغة الدقة، تتقاطع فيها التحديات الداخلية مع تحولات جوهرية يشهدها النظام النقدي العالمي، مشيرًا إلى أن تزامن زيارة بعثة صندوق النقد الدولي إلى القاهرة مع اقتراب اجتماع لجنة السياسات النقدية بالبنك المركزي المصري بنهاية ديسمبر لا يمكن اعتباره إجراءً روتينيًا ضمن برنامج الإصلاح، بل يمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة السياسات الاقتصادية على تحقيق توازن شديد الحساسية بين استقرار الأسعار، ودعم النمو، والحفاظ على استقرار سوق الصرف.
وأوضح العسيلي في تصريحات خاصة لـ”لبوابة نيوز”، أن حدة هذا الاختبار تتضاعف في ظل دخول الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي دورة خفض أسعار الفائدة، وهو ما يثير تساؤلات جوهرية حول قدرة البنك المركزي المصري على المناورة بين الضغوط التضخمية المحلية من جهة، ومتطلبات جذب التدفقات الرأسمالية والحفاظ على جاذبية العائد من جهة أخرى، دون التفريط في مكتسبات الاستقرار النسبي التي تحققت خلال الأشهر الماضية. وأضاف أن المفاضلة بين خيار تثبيت أسعار الفائدة أو خفضها لا تنعكس آثارها على السياسة النقدية فقط، بل تمتد لتشمل سعر الصرف، وحركة الأموال الساخنة، وثقة المستثمرين في الاقتصاد المصري ككل.
وأشار الدكتور حسين العسيلي إلى أن زيارة بعثة صندوق النقد الدولي جاءت في إطار استكمال المراجعتين الخامسة والسادسة لبرنامج التسهيل الممدد، الذي يمثل أحد الأعمدة الرئيسية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي في المرحلة الراهنة، موضحًا أن مناقشات البعثة مع السلطات المصرية تركزت على تقييم مدى الالتزام بمحاور الإصلاح المتفق عليها، وعلى رأسها مرونة سعر الصرف، وضبط السياسة النقدية، وتعزيز دور القطاع الخاص، وتحسين كفاءة إدارة المالية العامة.
وأضاف أن الرسالة الأهم التي حملتها بعثة صندوق النقد تمثلت في الإشادة بالتقدم الذي أحرزته الحكومة المصرية فيما يتعلق باستقرار سوق الصرف وتحسن إدارة السيولة الأجنبية، مع التأكيد في الوقت ذاته على ضرورة الاستمرار في اتباع سياسة نقدية حذرة وعدم التسرع في تخفيف القيود النقدية، بما يضمن كبح الضغوط التضخمية وعدم إعادة إنتاج اختلالات سابقة. وأكد أن الزيارة عكست قدرًا من التفاؤل الحذر بإمكانية استكمال صرف الشرائح المتبقية من البرنامج، شريطة الحفاظ على الانضباط النقدي وتجنب القرارات غير المحسوبة.
وأوضح العسيلي أن اجتماع لجنة السياسات النقدية للبنك المركزي المصري يأتي في توقيت بالغ الحساسية، خاصة بعد قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، وهو ما خفف نسبيًا من حدة التشدد النقدي العالمي، إلا أن الاختلافات الهيكلية بين الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد المصري تجعل من الصعب إسقاط هذا القرار بشكل مباشر على الحالة المصرية.
وأضاف أن خفض الفيدرالي الأمريكي للفائدة جاء في ظل معدلات تضخم قريبة من مستهدفاته، بينما لا تزال معدلات التضخم في مصر مرتفعة نسبيًا، فضلًا عن أن الجنيه المصري يتمتع بحساسية عالية تجاه تحركات التدفقات قصيرة الأجل. لذلك، رجّح العسيلي أن يتجه البنك المركزي المصري إلى تثبيت أسعار الفائدة خلال اجتماع ديسمبر، حفاظًا على الاستقرار النقدي، ودعم جاذبية الاستثمار في الأصول المقومة بالجنيه، وهو السيناريو الأقرب في تقديره.
وأشار إلى أن تثبيت أسعار الفائدة من شأنه أن ينعكس إيجابيًا على تقييم مؤسسات التصنيف الائتماني للاقتصاد المصري، إذ يعزز الثقة في التزام الدولة بالحفاظ على الاستقرار النقدي، ويقلل من احتمالات اتخاذ إجراءات قد تؤدي إلى تعديل التصنيف الائتماني نحو الأسوأ.
وفي المقابل، أكد الدكتور حسين العسيلي أن خيار خفض أسعار الفائدة، وإن كان مطروحًا نظريًا لدى بعض الأطراف، يظل مشروطًا بتحقيق تراجع واضح ومستدام في معدلات التضخم، وهو ما لم يتحقق بعد بالشكل الذي يسمح باتخاذ قرار منخفض المخاطر. وأضاف أن سعر الصرف يُعد من أكثر المتغيرات حساسية لقرارات السياسة النقدية، خاصة في الاقتصادات الناشئة.
وأوضح أن تثبيت أسعار الفائدة من شأنه أن يدعم استقرار الجنيه المصري نسبيًا، في ظل استمرار جاذبية العائد الحقيقي على الأصول المحلية، وتراجع دوافع المضاربة قصيرة الأجل.
أما في حال خفض الفائدة، فقد يفتح ذلك الباب أمام ضغوط على سعر الصرف، سواء نتيجة تراجع جاذبية العائد أو تصاعد الطلب التحوطي على العملات الأجنبية، ما قد يؤدي إلى تقلبات غير مرغوبة في سوق الصرف في التوقيت الحالي، حتى وإن كان الخفض محدودًا في حجمه.
وأشار العسيلي إلى أن الأموال الساخنة تلعب دورًا مزدوجًا في الاقتصاد المصري؛ فهي تمثل مصدرًا سريعًا لتدفقات النقد الأجنبي، لكنها في الوقت ذاته شديدة الحساسية لأي تغيير في أسعار الفائدة أو حتى في التوقعات المرتبطة بها.
وأكد أن تثبيت أسعار الفائدة يساعد على الحفاظ على هذه التدفقات داخل السوق، أو على الأقل الحد من خروجها المفاجئ، بما يدعم استقرار سوق الصرف. وعلى النقيض، قد يُفسر خفض الفائدة على أنه بداية دورة تيسير نقدي، ما قد يدفع بعض المستثمرين الأجانب إلى إعادة توجيه استثماراتهم نحو أسواق أخرى ذات عائد أعلى، بما يزيد من مخاطر خروج الأموال الساخنة والضغط على الاحتياطيات وسعر الصرف.
واختتم الدكتور حسين العسيلي تصريحاته بالتأكيد على أن البنك المركزي المصري يقف حاليًا أمام معادلة شديدة التعقيد تتطلب قدرًا عاليًا من الحذر والاتزان، موضحًا أن تثبيت أسعار الفائدة في هذا التوقيت لا يعني الجمود، بل يمثل قرارًا استراتيجيًا يهدف إلى شراء الوقت وترسيخ الاستقرار، في حين أن أي خفض غير محسوب قد تكون كلفته أعلى من مكاسبه قصيرة الأجل. وأكد أن الرهان الحقيقي يظل على قدرة صانعي السياسة النقدية على اتخاذ القرار الذي يحمي الاستقرار اليوم، ويمهّد لمسار أكثر أمانًا للاقتصاد المصري في المستقبل القريب.








